لكل إنسان قصته مع الدنيا‏..‏
بقلم : سفير د‏.‏ فتحي مرعي

نعم لكل منا قصته مع الدنيا‏..‏ وهي إما أن تكون قصة سارة وإما أن تكون دون ذلك‏,‏ أو أن تكون قصة حزينة‏..‏ والقصة قد تكون فصولها طويلة أو متوسطة الطول‏(!)‏ أو قصيرة‏..‏ حين يموت الشخص وهو في ربيع العمر‏..‏

ولكل منا حكمه علي الدنيا‏..‏ بحسب نظرته إليها..‏ وبحسب كونه متفائلا أو متشائما‏..‏ وبحسب درجة تدينه ورضائه بما قسم الله له‏,‏ أو أن يكون إيمانه سطحيا غير عميق‏,‏ فهو في هذه الحالة متقلب المزاج بحسب تقلب الأيام معه‏,‏ أن جاءه خير فهو فرح مسرور‏,‏ وان جاءه شر فهو ساخط ناقم علي الدنيا وعلي قدره‏..‏

والفرق بين الشخص المتدين وبين الشخص قليل الأيمان,‏ أن الأول يأخذ الدنيا وما تجئ به آخذا هينا‏..‏ فهو يعرف بأن الدنيا ليست هي المستقر‏,‏ ولذلك فلا يهم أن جاءت له بخير أو بشر‏..‏ فهذا زائل وذاك زائل أيضا,‏ وهو هكذا لا يعطي أهمية بالغة لما يزول‏..‏ من خير أو من شر‏..‏ وفي المقابل تجده حريصا أشد الحرص علي أخرته لأنها هي المستقر‏,‏ لا زوال لها ولا فناء فيها‏,‏ وان السعادة والشقاء مدخران للآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود وما نؤخره إلا لاجل معدود يوم يأت لا تكلم نفس إلا بأذنه فمنهم شقي وسعيد‏(‏هود‏103‏ ـ‏105)‏

فالناس يوم القيامة فريقان‏:‏ شقي وسعيد‏..‏ والشقي هو من أوصلته أعماله إلى جهنم‏,‏ والسعيد هو من أوصلته أعماله إلى الجنة‏..‏ وإذا ما دخل الإنسان الجنة فهو من الفائزين‏,‏ بغض النظر عن درجته فيها فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز‏(‏ ال عمران‏185)‏ فالجنة هي جائزة المؤمنين‏,‏ والتي تتواري إلي جانبها كل جوائز الدنيا للذين يرغبون فيها‏,‏ ويعلقون آمالهم كلها عليها‏..‏ ولو عرفوا انهم لو حصلوا علي كل ما يتمنونه واكثر في الدنيا‏,‏ ثم جاءوا إلى الآخرة صفر اليدين من الأيمان والعمل الصالح‏,‏ ما أغني عنهم ما تمتعوا به في الدنيا ولو طال عمرهم أفرأيت أن متعانا هم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغني عنهم ما كانوا يمتعون‏(‏ الشعراء‏205‏ ـ‏207)‏ وما كانوا يوعدون هو عذاب النار الذي ينسيهم كل ما كان لهم في الدنيا‏..‏

والمؤمن لا يترك دنياه لأخرته..‏ بل يأخذ من هذه لتلك‏..‏ أي يسعي ويجتهد في طلب الرزق الحلال‏,‏ وقد يكون رزقه واسعا‏,‏ مما يتيح له مساعدة الآخرين بشتى الطرق‏,‏ يبتغي بذلك وجه الله‏,‏ وتتسم معاملاته مع الناس بالأمانة والنزاهة والشرف‏..‏ لا يغبن أحدا ممن يعملون معه في مشروعاته‏..‏ ويتصرف مع الغير وعينه علي الآخرة ـ فذلك زاده إلى يوم المعاد ـ إلى جانب القيام بما افترضه الله علي عباده المؤمنين من صلاة وصيام وزكاة وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا‏..‏ فالمؤمن يعمل صالحا ويدعو الله أن يرضي عن عمله الصالح‏,‏ فالعمل الصالح أن لم يكن بنية خالصة لإرضاء الله عز وجل,‏ فلا ثواب له ولا أجر عليه رب أوزعني أن اشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلي والدي وأن اعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين‏(‏ النمل‏19).‏

أما الذي يبيع أخرته لقاء دنياه‏,‏ فهو من الخاسرين‏..‏ وخسارة الآخرة لا تعوض بأي شكل من الأشكال..‏ يكفي أن يحرم الإنسان من الخلود في نعيم الجنة غير المحدود‏..‏ العمر فيها لا ينقضي والنعيم لا يزول‏,‏ بل نعيم سرمدي دائم لا كدر فيه ولا انقطاع له‏(‏ من أقوال الدكتور طه حسين‏)..‏

والخسارة ليست قاصرة علي الحرمان من الجنة‏,‏ ولكن الأدهي والأمر هو العذاب المهين في جهنم‏..‏ أي أن الخسارة مركبة‏:‏ خسارة دخول الجنة من جهة وعذاب النار من جهة أخرى..‏ افليس هذا هو الخسران المبين؟‏!‏ قل أن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة إلا ذلك هو الخسران المبين لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون‏(‏الزمر‏15‏ ـ‏16)..‏

ولذلك فخير للإنسان أن تنتهي قصته مع الدنيا بدخوله جنة الخلد‏,‏ بدلا من أن تنتهي بدخوله النار الحامية فآما من ثقلت موازينه‏,‏ فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية وما أدراك ماهية نار حامية‏(‏ القارعة‏6‏ ـ‏11)‏ فمن يفضل النار الحامية علي العيشة الراضية في جنات عدن فهو وشأنه بل الإنسان علي نفسه بصيرة‏(‏ القيامة‏14)‏ أي أن كلا منا مسئول عن نفسه وعن وجهته‏..‏

وإذا كان الأمر كذلك‏,‏ وان الآخرة هي دار الإقامة الدائمة والأبدية‏,‏ فأمور الدنيا وأحوالها,‏ وما تصنعه الأيام بنا‏,‏ وما تعطينا إياه وما تسلبه منا‏..‏ فتلك كلها أمور هامشية لا يجب أن نحفل بها أكثر من اللازم

بديهي ألا نجعل أفراح الدنيا تنسينا أخرتنا,‏ كما لا نجعل أحزانها تثقل كواهلنا‏..‏ أي ينبغي أن نحذر هذه وتلك‏..‏ طبعا نسر لما يجلب الفرحة إلى قلوبنا‏,‏ ونحزن إذا أصابنا مكروه‏..‏ نعم فهذا شئ طبيعي أنساني,‏ ولكن المبالغة في الفرح أو المبالغة في الحزن هي التي يجب أن نتجنبها حتى لا نقع في المحظور‏..‏ إلا وهو نسيان ذكر الله واليوم الآخر..‏
بل يكون موقفنا أن نحمد الله علي النعمة ونقوم بحقها‏,‏ أو نتضرع إلى الله في حال البأس أن يكشف الضر عنا ويلهمنا الصبر والثواب عليه‏..‏ إذ هناك من لا يتضرع إلى الله إذا أصابه مكروه‏..‏ بل ينقلب علي وجهه‏,‏ أي يعرض عن ذكر ربه وان أصابته فتنة انقلب علي وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين‏(‏الحج‏11)..‏ وهؤلاء يصفهم الرحمن بأن قلوبهم قاسية فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون‏(‏ الأنعام)‏

والله يقص علينا من أنباء من سبقونا ما يصلح لأخذ العبرة‏,‏ وعلينا أن نتمعن فيها لنعتبر لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب(‏ يوسف‏111)‏ وفي سورة الأعراف يقول ذو الجلال فأقصص القصص لعلهم يتفكرون‏(الأعراف)..‏

قصة كل إنسان مع الحياة يستطيع هو أن ينسج خيوطها مستعينا بكل ما يري ويسمع من أنباء الحاضرين وأنباء السابقين‏,‏ فلا يقع فيما وقع فيه سواه من أخطاء مدمرة ومغامرات فاشلة في بداياتها وفي نهاياتها‏..‏


فحياتنا الدنيوية لن تتكرر أبدا..‏ وإنما يأخذ كل فرصته ويمضي إلى الآخرة..‏ إما إلى الجنة خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما‏(‏ الفرقان)‏ وإما إلى النار إنها ساءت مستقرا ومقاما‏(‏ الفرقان)..‏