متاع الحياة
جعل الله سبحانه وتعالي الحياة
الدنيا متاعا والآخرة هي الحياة الحقة الدائمة. وكل منا يستلذ بهذا المتاع حسب ميله
وطبعه. فأعلي الناس لذة وأشرفهم نفسا وارفعهم قدرا من جعل لذته في معرفة الله
ومحبته والشوق إلي لقائه والتودد إليه بما يحبه ويرضاه فيجد النعيم المقيم في
الإقبال عليه وعكوف همته عليه فيحس بأن الدنيا قد حيزت له بحذافيرها فرضاه في رضا
الله وسخطه لسخط الله مؤتمرا بأمره منتهيا عما عنه قد نهاه. فيصير مؤمنا كامل
الإيمان وافق هواه ما جاء به الشرع الحنيف. فيدخل في الربانيين الذين لهم في القرب
نصيب.
من استجمع هذه الأمور فإنه يجمع بين لذة الروح ولذة البدن فتناوله للذاته المباحة
لا ينقص من حظه في الدار الآخرة ولا يقطع عليه لذة المحبة لربه فإن الله يحرم عليه
زينته التي التي أخرجها له ولغيره من عباده كما أخرج لهم الطيبات من الرزق وأنها
للدنيا يشترك في لذتها مع المؤمنين غيرهم لكنها في الآخرة خالصة للمؤمنين. فما متاع
الحياة الدنيا في الاستئثار بأموالها ولا الاستحواذ بثرواتها بل الكفاف فيها يغني
فالصالحون لهم نفوس قد استلذت الطاعة فهانت في عيونهم الدنيا بل انهم دافعوها حتى
غلبوها وردوها من حيث أنت فنجوا من تنافسها وإهلاكها. حتى حسدهم الملون علي قوة
جلدهم في مدافعة ما لابد منه بد. فكانت الدنيا في أيديهم لا في قلوبهم. لعلمهم بأن
عبد الدينار والدرهم زهد الناس في مصاحبته ففساد الطباع وضعف النفوس يخفيان وراءهما
نفسا أمارة بالسوء.
أما من جعل لذته في التمتع حسب أمر الهوى والشهوة فهو إلي الهاوية أقرب. ولا يختلف
تمتعهم بدنياهم حول كونه مباحا مأذونا فيه أم لا. فجعلهم قطع لذة الدنيا عنهم بل
تخطتهم لذة الآخرة فلا الدنيا دامت لهم لذتها ولا الآخرة حصلت لهم فيها لذة.
كي تدوم لذة الدنيا وتستمر حتى تكون موصلا للذة الآخرة فعلي المسلم أن يستعين بهذه
اللذة الدنيوية علي فراغ قلبه لله أرادته وعبادته فيتناولها بحكم الاستعانة والقوة
علي الطاعة لا لمجرد الهوى والشهوة. فبالنية تتحول العادات إلي عبادات والعكس فإذا
أكلت فلا تقصد بهذا الأكل اللذة بل اجعل قصده لله لتقوي به علي عبادته حتى لذة
الجماع حولها بنيتك إلي طاعة لتأخذ عليها أجرا مع تحقيق قضاء وطرك. قاصدا بها اعفاف
نفسك وزوجك عن الحرام. وعلي المسلم أن يجعل ما نقص من لذات الدنيا إنما هو ادخار له
في الآخرة ولذاتها ونعيمها. فمن أخذ منافع الدنيا علي وجه لا ينقص حظه من الآخرة
فاز بهما جميعا وإلا خسرهما جميعا.